كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلو كان القياس حقًّا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث، ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له: فحيث رأينا كل من كان أشد توغلًا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين، وأن شيئا تترك له السنن لأبين شيئ منافاة للدين. فلو كان القياس حقًّا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث، ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له: فحيث رأينا كل من كان أشد توغلًا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين، وأن شيئًا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين.
فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة، ولم يخالف أصحابه حديثًا واحدًا منها، ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث. فليروا أهل الحديث والأثر حديثًا واحدًا صحيحًا قد خالفوه. كما أريناهم آنفًا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس.
قالوا: وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم: ألا نقول على الله إلا بالحق. فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي نيقض بعضها بعضًا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقًّا لكانت متفقة بصدق بعضها بعضًا كالنسة التي يصدق بعضها بعضًا، وقال تعالى: {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82] لا بآرائنا ولا مقاييسنا، وقال: {والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق، قوال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما: اتباع لما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع الهوى.
قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع أمته إلى القياس قط، بل قد صح عنه أنّه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسًا للبس على التملك والانتفاع والبيع، وكسوتها لغيره، وردها عمر قياسًا لتملكها على لبسها. فأسامة أباح، وعمر حرم قياسًا. فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من القياسين. وقال لعمر: «إنما بَعَيْتُ بِهَا إِلَيْك لِتَسْتمتِعَ بِهَا» وقال لأسامة: «إِني لم أَبْعَث إِلَيْك بِها لِتَلْبِسَهَا ولَكِن بَعَثتها إِلَيْك لتشقها خُمُرًا لِنِسائِك»، والنَّبي صلى الله عليه وسلم إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط. لقاسا قياسًا أخطأ فيه. فأحدهما قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس، والنَّبي صلى الله عليه وسلم بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس.
قالوا: وهذا عين إبطال القياس. وقالوا: وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله فَرَض فَرَائض فلا تُضَيِّعُوها، وحَد حُدُودًا فلا تَعْتَدُوهَا، ونَهَى عن أَشْيَاء فلا تَنْتَهِكُوها، وسكت عن أشياء رَحْمَة لَكُم غَيْر نِسْيَان فلا تَبْحَثُوا عنها»، قالوا: وهذا الخطاب عام لجميع الأمة أولها وآخرها.
قالوا: وقد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد من حديث سلمان رضي الله قال: سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم أَشْيَاء فقال: «الحَلاَل ما أَحَلَّه الله، والحَرَام ما حَرمَ الله، وما سَكَتَ عَنْه فهو مِمَا عَفَا عَنْه» قالوا: وكل ذلك يدل على أن المسكوت عنه معفو عنه. فلا يجوز تحرميه ولا إيجابه بإلحاقه بالمنطوق به.
قالوا: وقال عبدالله بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن جرير بن عثمان، عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه عن عوض بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم. فيحلون الحرام ويحرمون الحلال» قال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبدالله.. فذكره وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ. إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن على رضي الله عنه، ومع ذلك فقد احتج به البخاري في صحيحه، وقد روي عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علَي، ونعيم بن حماد إمام جليل، وكان سيفًا على الجهمية، روى عنه البخاري في صحيحه.
قالوا: وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم تقرب من التواتر أنه قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» وقد قدمنا إيضاح مرادهم بالاستدلال بالحديث.
وقد ذكروا عن الصحابة والتابعين آثارًا كثيرة في ذم الرأي والقياس، والتحذير من ذلك. وذلك كثير معروف عن الصحابة فمن بعدهم. وذكروا كثيرًا من أقيسة الفقهاء التي يزعمون أنها باطلة، وعارضوها بأقيسة تماثلها في زعمهم. وذكروا أشياء كثيرة يزعمون أن الفقهاء فرقوا فيها بين المجتمع، وجمعوا فيها بين المفترق، إلى غير ذلك من أدلتهم الكثيرة على إبطال الرأي والقياس.
وقد ذكرنا في هذا الكلام جملًا وافية من أدلتهم على ذلك بواسطة نقل العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين ولم نتتبع جميع أدلتهم لئلا يؤدي ذلك إلى الإطالة المملة. وقد رأيت فيما ذكرنا حجج القائلين بالقياس والاجتهاد فيما لا نص فيه، وحجج المانعين لذلك.
المسألة السادسة:
اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف لما رأيت أن القياس قسمان: قياس صحيح، وقياس فاسد. أما القياس الفاسد فهو الذي ترد عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية وتدل على بطلانه، ولا شك أنه باطل، وأنه ليس من الدين كما قالوا، وكما هو الحق.
وأما القياس الصحيح فلا يرد عليه شيء من تلك الأدلة، ولا يناقض بعضه بعضًا، ولا يناقض البتة نصًا صحيحًا من كتاب أو سنة. فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة، يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض.
فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدًا.
وضابط القياس الصحيح هو أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه من أجلها موجودة بتمامها في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه. وكذلك القياس المعروف بـ: القياس في معنى الأصل الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم. فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه، ولا يعارض نصًا، ولا يتعارض هو في نفسه. وسنضرب لك أمثلة من ذلك. تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفاضح، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل، الذي لا يشك عاقل في بطلانه، وعظم ضرره على الدين. بدعوى أنهم واقفون مع النصوص، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب أو سنة فهو معفو عنه، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع.
وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» فالنَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحكم في وقت الغضب، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا. لأن الغضب يشوش الفكر فيمنع من استيفاء النظر في الحكم. فيكون ذلك سببًا لضياع حقوق المسلمين. فيلزم على قول الظاهرية كما قدمنا إيضاحه: أن النهي يختص بحالة الغضب ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم. فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيرًا أشد من تأثير الغضب بأضعاف، أو كان في جوع أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب. فعلى قول الظاهرية فحكمه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم عفو جائز. لأن الله سكت عنه في زعمهم، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع، مع أن تنصيص النَّبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الكفر تشويشًا كتشوييش الغضب أو أشد منه كما لا يخفى على عاقل!! فانرظ عقول الظارهية وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام، مع نهي النَّبي صلى الله عليه وسلم الصريح عن ذلك في صورة من صورة وهي الغضب بزعمهم أنهم واقفون مع النصوص.
ومن ذلك قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأولئك هُمُ الفاسقون إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 4- 5] فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة، وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم. ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك وأصلح. ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور.
فيلزم على قول الظاهرية أن من قذف محصنًا ذكرًا ليس على أئمة المسلمين جلده ولا رد شهادته، ولا الحكم بفسقه. لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم، وما سكت عنه فهو عفو!
فانظر عقول الظاهرية وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور، بدعوى الوقوف مع النص!! ودعوى بعض الظاهرية: أن آية {والذين يَرْمُونَ المحصنات} شاملة للذكور بلفظها، بدعوى أن المعنى: يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث والذكور، من تلاعبهم وجهلهلم بنصوص الشرع؟ وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور: 23] الآية. فهل يمكنهم أن يقولوا إن الفروج هي الغافلات المؤمنات. وكذلك قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] الآية. وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] كما هو واضح؟؟
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد: فإنه لا يشك عاقبل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره. فيلزم على قول الظاهرية: أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ثم صبها في الماء الراد، أو تغوط فيه أن كل ذلك عفو لأنه مسكوت عنه. فيكون الله على قولهم ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه بصبه فيه من الآنية. وكذلك يأذن في الغوط فيه!
وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضًا معيبًا عند جميع العقلاء. فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذًا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص!! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب. كما قيل:
أمنفقضة الأيتام من كد فرجها ** لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء. فإنه يلزم على قول الظاهرية: أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العور خاصة. فتكون العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به فيكون ذلك عفوًا. وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح. لأن المفهوم من العور غير المفهوم من العمى.
لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر. بخلاف العمى فلا يطلق في ذلك. وتفسير العور: بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة. لأن العمى المقيد بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معًا. وبالجملة فالمعنى المفهوم من لظف العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى. فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء لأنها مسكوت عنها وأمثال هذا منهم كثيرة جدًّا. وقصدنا التنبيه على بطلان أساس دعواهم، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع والحكم والمصالح التي هي مناط الأحكام، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم.
واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق. فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع، ودفع المضار. فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين تقليدًا لمن تقدمهم: من أن أفعاله جل وعلا لا تعلل بالعلل الغائية، زاعمين أ، التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المعلل به، وأن الله جل وعلا منزه من ذلك لاسلتزامه النقص كله كلام باطل! ولا حاجة إليه البتة! لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين: أن اللج جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} [فاطر: 15]، ولَكِنه جل وعلا يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه. لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وادعاء كثير من أهل الأصول: أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلاماتت للأحكام ناشئ عن ذلك الظن الباطل. فالله جل وعلا يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه. لا إلى الله جل وعلا {إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]. وقد صرح تعالى وصرح رسوله صلى الله عليه وسلم: بأنه يشرع الأحكام من أجل الحكم المنوطة بذلك التشريع. وأصرح لفظ في ذلك لفظة من أجل وقد قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر».
وقد قدمنا أمثلة متعددة لحروف التعليل في الآيات القرآنية الدالة على العلل الغائية المشتملة على مصالح العباد، وهو أمر معلوم عند من له علم بحكم التشريع الإسلامي.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقًا، وقول من غلا فيه، وذكر أدلة الفريقين ما نصه:
قال المتوسطون بين الفريقين: قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان. فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الإحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح.
بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة، يصدق بعضها بعضًا ويشهد بعضها لبعض. فلا يناقض القياس الصحيح، النص الصريح أبدًا.
ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة، أو جملة وتفصيلًا. ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة. فهكذا أوامره سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولَكِن لا يخالفه وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين.
إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا، وإذنًا وعفوًا. كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابة وقدرًا. فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها. وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية. فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري. فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه. وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ولَكِن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله جل وعلا. ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم. وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه: الفهم الفهم فيما أدلى إليك. وقال على رضي الله عنه: إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه. وقال أبو سعيد: كان أبو بكر رضي الله عنه: أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا النَّبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل والفرق بين الفقه والتأويل: أن الفقه هو فهم المعنى المراد والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل. فمعرفة التأويل يختص بها الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه، والله يعلم بطلانه إلى أن قال رحمه الله:
وكل فرقة من هؤلاء الفرق الثلاث: يعني نفاة القياس بالكلية، والغالين فيه والقائلين بأن العلل الشرعية أمارات وعلامات فقط، لا مصالح أنيطت بها الأحكام وشرعت من أجلها سدوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق. فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله. فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل، واعتبار الحكم والمصالح، وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحملوهما فوق الحاجة، ووسعوها أكثر مما يسعانه. فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا مما وراءه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب. وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها. والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد. وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس، وتركهم له، وأخذوا بقياس تركهم وما هو أولى منه. ولَكِن أخطؤوا من أربعة أوجه:
أحدها رد القياس الصحيح، ولاسيما النصوص على علته التي يجري عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لما لعن عبدالله خمارًا على كثرة شربه للخمر: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله. وفي قوله: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس. وفي أن قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]: نهى عن كل رجس. وفي أن قوله في الهرة: ليست بنجس لأنها من الطوافين عليكم والطوافات. بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهي له عن كل طعام كذلك، وإذا قال: لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر فهو نهي له عن كل مسكر. ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة، وأمثال ذلك الخطأ.